فصل: مظاهر غُلُوِّ الإفراط:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة 143].
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج 078].
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة 185].
فالمعادلة السهلة، والنتيجة القطعيّة: أن الولاء والبراء ما دام أنه من الإسلام، فهو وَسطٌ وسَمْحٌ ورحمة. لا يشك في هذه النتيجة مسلم، ولا غير مسلم إذا كان منصفًا.
ومع ذلك فلابد من بيان عدم تعارض معتقد الولاء والبراء مع مبادئ الوسطيّة والسماحة والرحمة، وذلك يظهر من خلال النقاط الآتية التي لا تزيد على أن تكون أمثلة لعدم تعارض الولاء والبراء مع سماحة الإسلام:
أوّلًا: لا يُجبر أحدٌ من الكفار الأصليِّين على الدخول في الإسلام.
قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة 256].
ثانيًا: أنّ لأهل الذمّة التنقّل في أي البلاد حيث شاؤوا، بلا استثناء، إلا الحرم. ولهم سكنى أي بلد شاؤوا من بلاد الإسلام أو غيرها، حاشا جزيرة العرب.
وهذا كُلّه محلّ إجماع إلا المرور بالحرم ففيه خلافٌ، الراجح فيه عدم الجواز.
ثالثًا: حفظ العهد الذي بيننا وبين الكفار، إذا وَفَّوْا هُمْ بعهدهم وذمّتهم.
قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)} [التوبة 004].
وعن أبي رافع رضي الله عنه «وكان قبطيًّا»، قال: بعثتني قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البُرُد. ولكن ارجع، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن، فارجع». قال: فذهبتُ، ثم أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ.
يقول ابن حزم في «مراتب الإجماع»: «واتفقوا أن الوفاء بالعهود التي نصَّ القرآنُ على جوازها ووجوبها، وذُكرت بصفاتها وأسمائها، وذُكرت في السنة كذلك، وأجمعت الأمّة على وجوبها أو جوازها، فإن الوفاء بها فرضٌ، وإعطاؤها جائز».
رابعًا: حرمة دماء أهل الذمّة والمعاهدين، إذا وَفَّوْا بذمتهم وعهدهم.
قال صلى الله عليه وسلم «من قَتَل معاهَدًا لم يرَحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا».
وقال صلى الله عليه وسلم: «أيُّما رجلٍ أمِنَ رجلًا على دمه ثم قتله، فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتولُ كافرًا».
خامسًا: الوصيّة بأهل الذمّة، وصيانة أعراضهم وأموالهم، وحفظ كرامتهم.
قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفحتون أرضًا يُذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإنّ لهم ذِمّةً ورحمًا».
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أُوصي الخليفة من بعدي بذمّة الله وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوَفَّى لهم بعهدهم، وأن يُقاتَل مِنْ ورائهم، وأن لا يكلَّفُوا فوق طاقتهم».
وقد ذكر ابن حزم شروط أهل الذمّة، ثم نقل الاتفاق أنهم إذا فعلوا ذلك «فقد حَرُمت دماءُ كُلِّ من وَفَّى بذلك، ومالُه، وأهلُه، وظُلْمُهُ».
سادسًا: أن اختلاف الدين لا يُلْغي حقَّ ذوي القربى.
قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان 015].
«وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قَدِمتْ عليَّ أُمّي، وهي مُشركة، في عهد قريش إذْ عاهدهم. فاسْتَفْتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة، أفأَصِلُ أُمي؟ قال: صِلِي أُمَّك».
سابعًا: أن البرّ والإحسان والعَدْلَ حقٌّ لكل مْنْ لم يقاتل المسلمين أو يُظاهر على قتالهم، بل حتى المقاتل يجوز بِرُّهُ والإحسان إليه إذا لم يقوِّه ذلك على قتال المسلمين وأذاهم.
قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة 008-009].
وأمّا العَدْل فهو فرضٌ واجب لكل أحد، حتى من نُبغضه بحقّ، ممن عادانا وقاتلنا من الكفار.
يقول الله تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة 008].
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة 190].
ولذلك لا يجوز لنا أن نخون من خاننا؛ لأن الخيانة والغدر ليسا من العدل.
قال صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك».
ولذلك فقد حذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم من دُعاء المظلوم ولو كان كافرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا، فإنه ليس دونها حجاب».
وبذلك يؤكد الإسلام على فرض العدل مع غير المسلمين، بأقوى تأكيد، والعَدْلُ رأس كُلّ فضيلة.
فبهذه الأخلاق والآداب يُعامل المسلمون غيرَ المسلمين، وهذه الأخلاقُ والآداب من دين الإسلام، يأمرهم بها كتابُ ربهم وسُنَّةُ نبيّهم صلى الله عليه وسلم.
وما دامت من دين الله تعالى، فلا يمكن أن تتعارض مع حكم آخر من دين الله تعالى أيضًا، وهو الولاء والبراء.
ولا شك أن بعضَ جهلة المسلمين «فضلًا عمّن سواهم» ظنّوا أن بين تلك الآداب والولاء والبراء تعارضًا، وأنه لا يُمكن أن يجمع المسلم بينهما. فمال بعضهم إلى التفريط في الولاء والبراء غلوًّا في تطبيق تلك الآداب، ومال ببعضهم الآخر إلى الإفراط في تلك الآداب غلوًّا في الولاء والبراء. ودين الله وسط، بين الغالي والجافي.
وبيان عدم تعارض تلك الآداب مع الولاء والبراء: أن تلك الآداب إذا أردنا أن تكون شرعيّةً محبوبةً لله تعالى، فيجب أن نلتزم بها: طاعةً لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم مع بُغض الكفار لكفرهم، ومع عدم نُصرة غير المسلمين على المسلمين؛ فنحن نلتزم بتلك الآداب لا حُبًّا للكفار، ولكن إقامةً للعدل والإحسان الذي أُمرنا به.
وقد عقد الإمام القرافي فصلًا لبيان الفرق بين الأمر بعدم موالاة الكفار والأمر ببر أهل الذمة منهم والإحسان إليهم، قال فيه رحمه الله: «وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعيَّن علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبيل ما نُهي نهى في الآية وغيرها» ثم فصل كلامه بذكر بعض الأمثلة. ويلحظ أن القرافي أطلق في مواطن أنّ المحرَّم هو الوُدُّ الباطن، وإن كان سياق كلامه يدل على مقصوده. وهذا أوانُ تحرير هذه المسألة، وهو من مُكمِّلات بيان سماحة معتقد الولاء والبراء.
ذلك أن الحُبَّ القلبي لغير المسلمين ليس شيئًا واحدًا، فمنه ما ينقض الولاء والبراء من أساسه، ويَكْفُرُ صاحبُه بمجرّده. ومنه ما يَنْقُصُ من الولاء والبراء ولا يَنْقُضُهُ، فيكون معصيةً تَنْقُصُ الإيمانَ ولا تنفيه. ومنه مالا يؤثر في كمال الإيمان وفي معتقد الولاء والبراء، لكونه مباحًا من المباحات. أمّا الحبّ القلبيُّ الذي يَنْقُضُ الولاء والبراء وينفي أساسَ الإيمان: فهو حُبُّ الكافر لكُفْره.
وأمّا الحبُّ القلبي الذي لا يصل إلى حدّ النَقْض، لكنه يُنْقِصُ الإيمانَ، ويدل على ضعفٍ في معتقد الولاء والبراء، فهو: محبّة الشخص «كافرًا أو مسلمًا» لِفسْقِه أو لمعصيةٍ يقترفها. فهذا إثمٌ ولا شك، ولكنه لا يصل إلى درجة الكفر لكونه لا ينافي أصل الإيمان؛ إذْ لايزال في المسلمين من يحبّ المعاصي ويقترفها، ولم يكفّرهم أحدٌ من أهل السنة. وهذا الحبّ قد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، وقد لا يكون كذلك، بحسب حال المحبوب ومعصيته، فمن أحبّ محبوبًا لارتكابه الكبائر، فهذا الحب كبيرة، ومن أحبّه لصغيرة يرتكبها، فلا يزيد إثمه على إثم من ارتكبها. وهذا التقرير واضح الالتئام، بيِّنُ المأخذ، بحمد الله تعالى.
وأمّا الحبّ المباح فهو الحب الطبيعي، وهو الخارج عمَا سبق. كحبّ الوالد لولده الكافر، أو الوَلَدِ لوالديه الكافرين، أو الرجل لزوجه الكتابيّة، أو المرْءِ لمن أحسنَ إليه وأعانه من الكفار. فهذا الحُبّ مباح، ما دام لم يؤثر في بُغْضه لكفر الكافرين، وفسق الفاسقين، ومعصية العاصين. أمّا إذا أثّر في بُغْضه، فإنه يعود إلى أحد القسمين السابقين، بما فيهما من تفصيل.
والدليل على أن الحُبّ الطبيعي للكافر قد لا يؤثّر في كمال الإيمان، لكونه مباحًا، بالشرط الآنف ذكره: قولُه تعالى عن نبيّه صلى الله عليه وسلم في وصف حاله مع عمِّه أبي طالب الذي مات على الكفر: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص 056]. فأثبت اللهُ تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم محبَّةَ عمّه الكافر، ولم يَعْتَبْ عليه هذه المحبّة، ولا لامَهُ عليها؛ فدلّ ذلك على عدم مخالفتها لكمال الإيمان، وأنَّى تخالفه وقد وقعت من أكمل الناس إيمانًا صلى الله عليه وسلم؟!

.المبحث الخامس: مظاهر الغُلُوِّ في الولاء والبراء وبراءتُه منها:

.مظاهر غُلُوِّ الإفراط:

الغُلُوّ في الولاء والبراء، له وجهان: غُلُوّ إفراطٍ، وغُلُوّ تفريط.
أو قُلْ: غُلُوٌّ، وجفاء.
أمّا مظاهر غلوّ الإفراط، فترجع إلى مظهرين بارزين:
المظهر الأول: التكفيرُ بالأعمال الظاهرة التي تخالف موجبات الولاء والبراء، بسبب عدم فهم مناط التكفير في الولاء والبراء.
فقد سبق أن مناط التكفير في الولاء والبراء هو عَمَلُ القلب، فحُبّ الكافر لكُفْره، أو تمنِّي نصرة دين الكفار على دين المسلمين، هذا هو الكفر في الولاء والبراء. أمّا مجرّد النصرة العمليّة للكفار على المسلمين، فهي وحدها لا يُمكن أن يُكَفَّر بها؛ لاحتمال أن صاحبها ما زال يُحبُّ دين الإسلام ويتمنّى نصرته، لكن ضَعْفَ إيمانه جعله يُقدِّمُ أمرًا دنيويًّا ومصلحةً عاجلة على الآخرة.
ودليل هذا التقرير: قصةُ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما أخبر كفارَ مكّة سِرًّا، يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسل مَن أخذ الكتاب مِمّن خرج ليصل به إلى كفار مكة. ودعا حاطبًا، فقال له صلى الله عليه وسلم «يا حاطب، ما هذا؟!»، قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله! إني كنتُ أمرًا مُلْصَقًا في قريش «وكان حليفًا لهم، ليس من أنفسهم»، وكان مِمّن معك من المهاجرين لهم قراباتٌ يحمون أهليهم، فأحببتُ- إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتّخذَ فيهم يدًا، يحمون بها قرابتي. ولم أفعلْه كُفْرًا، ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدق». فقال عمر: دَعْني- يا رسول الله- أضربْ عُنُقَ هذا المنافق؟ فقال صلى الله عليه وسلم «إنه قد شهد بدرًا، وما يُدريك.. لعلّ الله اطَّلعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم».
وقد صَرّحَ شيخُ الإسلام ابن تيميّة: أنّ ما وقع من حاطب بن أبي بلتعة ذنبٌ وليس كفرًا.
فدلَّ هذا الحديث أن النصرة العملية ذنب، لكنها ليست كفرًا وحدها؛ لأن ما وقع من حاطب نُصْرةٌ «وليس حُبًّا»، ومع ذلك لم يكن ذلك منه كفرًا؛ لأنه لم يكن عن تَمَنٍّ لنصرة دين الكفار على الإسلام.